استقصاء النظر فى البحث عن القضاء والقدر

اشارة

شماره كتابشناسي ملي : ع 4246/1

سرشناسه : علامه حلي حسن بن يوسف 648 - ق 726

عنوان و نام پديدآور : استقصاء النظر في البحث عن القضا و القدر[نسخه خطي]حسن بن يوسف علامه حلي به خط محمدبن حسنعلي اللاري وضعيت استنساخ : ق 1280

آغاز ، انجام ، انجامه : آغاز نسخه "بسمله الحمدلله الحكيم الغفار القديم القهار العظيم الستار الذي خلق الانسان و منحه الاقتدار ..."

انجام نسخه "فاذا لم يفعل الوزير الفعل ثبت العجز هنا و الفرق بين الصورتين ثابت

: معرفي كتاب در اين اثر كه بنا به درخواست اولجايتو خدابنده تاليف شده مسائل مربوط به قضا و قدر و جبر و اختيار مورد بحث قرار گرفته و در آن آراآ مختلف فلسفي و كلامي بررسي شده است اين اثر به سال 1356ق در نجف به چاپ رسيده است اين اثر در يك مجموعه 112 برگي قرار دارد

مشخصات ظاهري : برگ 1پ - 15پ 15 سطر، اندازه سطور 135x70، قطع 180x115

يادداشت مشخصات ظاهري : نوع كاغذ: فرنگي نخودي

مشخصات نشر : مشعر

خط: نستعليق

حواشي اوراق نسخه نسخه در حاشيه تصحيح شده منابع اثر، نمايه ها، چكيده ها : منابع ديده شده مرعشي (362:7)، ذريعه (31:2)، مشار عربي (ص 49

موضوع : شيعه -- عقايد

قضا و قدر -- قرن ق 8

شناسه افزوده : لاري محمدبن حسنعلي قرن 13ق كاتب شماره بازيابي : 559

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

تمهيد:

مسألة الجبر والتفويض من المسائل التي دار البحث عنها بين علماء المسلمين، وافترقوا فيها إلى ثلاثة أقوال:

الأوّل: العبد مجبر على أفعاله، ولا قدرة له ولا اختيار في ما يفعله، وأنّ اللَّه تعالى هو خالق أفعال العباد شرّها وخيرها.

ويرجع منشأ هذا القول إلى أنّ بعض الحكّام الظالمين لمّا أرادوا تبرير ظلمهم وفسقهم وفجورهم، روّجوا فكرة الجبر، لتكون النتيجة: نسبة أعمالهم وقبائحهم إلى اللَّه تعالى فيجب الرضى بها، ولا يجوز الاعتراض عليها، كما أنّهم دسّوا الكثير من الأحاديث ووضعوها لأجل ترسيخ

ص:6

مقامهم، كوجوب إطاعة الأُمراء مطلقاً، ولو كانت أوامرهم مخالفة للشريعة المقدّسة!!.

الثاني: العبد مفوّض له كلّ شي ء، وأنّ اللَّه لمّا خلق الخلق فوّض لهم كلّ شي ءٍ، فلا دخل له في خلقه غير أنْ سوّاهم أوّل مرّة.

الثالث: لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين، أو أمرٌ بين أمرين، كما قاله الإمام جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

فالعبد له اختيار في أفعاله، ويحسّ في قرارة نفسه أنّه مختار في أفعاله، فهو يفرّق بين سقوطه من شاهق وبين نزوله من الأعلى بواسطة السلّم.

ومع وجود الإختيار في انتخاب الأفعال، يعلم العبد أنّه لولا قدرة اللَّه لما استطاع أن يتحرّك أو يخطو خطوة واحدة.

فاللَّه يعطي القدرة للعبد والقوّة على أن يتحرّك ويعمل، ويعطيه الإختيار في انتخاب الأفعال وكيفيّتها.

ومَثَلُهُ كمثل إنسان أُصيبت يده بشلل لا يستطيع أن

ص:7

يحرّكها، ثمّ إنّه أُتيح له بواسطة جهاز كهربائي يربط بيده بحيث يصبح قادراً على تحريك يده بنفسه في حالة اتّصال يده بذلك الجهاز، فما دامت يده متّصلة بالجهاز تحرّكت، وتكون الحركة باختياره لا باختيار الجهاز، فإذا فصل الجهاز عن يده عدمت الحركة.

هذه هي الأقوال الثلاثة في مسألة الجبر والتفويض، لكلّ قول ذهب جماعة من علماء المسلمين، وحاولوا أن يبرهنوا على أحقّية ما ذهبوا إليه بالبراهين العقلية والنقلية، وألّفوا في ذلك الكثير.

التعريف بالرسالة:

وممّن ألّف وبحث في هذه المسألة، واستقصى أدلّتها بإيجاز، وتبنّى القول الثالث: لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين، العلّامة الحلّي رضوان اللَّه عليه.

كتب هذه الرسالة بطلب من السلطان أولجايتو خدابنده محمّد لمّا سأله نظر الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختياراً في أفعاله، وأنّه غير مجبر عليها.

ص:8

وهذه الرسالة مع صغر حجمها فهي جامعة لأهمّ الأدلّة وأدقّها حول هذا الموضوع، وبعبارة موجزة.

ففي بداية الرسالة قرّر محلّ النزاع بذكر أقوال علماء المسلمين حول هذه المسألة، ومن ثمّ شرع بعرض الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختياراً في أفعاله.

فقال رضوان اللَّه عليه:والحقّ أنا فاعلون، ويدلّ عليه العقل والنقل، أمّا العقل فلوجوه ... وذكر ثمانية عشر وجهاً يحكم العقل بها على أنّ للعبد اختياراً في أفعاله غير مجبر عليها.

وقال قدّس اللَّه نفسه:وأمّا المنقول فوجوه ... وذكر ثمانية عشر وجهاً أيضاً، في كلّ وجه تطرّق لذكر عدّة آيات صريحة بأنّ العبد مختارٌ في أفعاله لا مجبر عليها، كالآيات الدالّة على مدح المؤمن على إيمانه وذمّ الكافر على كفره والوعد بالثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، والآيات الدالّة على المجازاة على الأفعال، والآيات الدالّة على أنّ أفعال العباد مستندة إليهم وصادرة عنهم، ...، ثمّ ذكر بعد ذكره للآيات الدالّة على أنّ للعبد اختياراً، رواية

ص:9

شريفة عن أمير المؤمنين عليه السلام لمّا سأله الشامي: أكان مسيرك إلى الشام بقضاء اللَّه وقدره، ثمّ شرح عدّة فقرات منها، ثمّ ذكر حديثاً عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لمّا سأله أبو حنيفة: المعصية ممّن.

وتعرّض رحمه الله في آخر الرسالة إلى ذكر أهمّ احتجاجات الذاهبين إلى أنّ العبد مجبر على أفعاله لا اختيار له فيها، وذكر أربع وجوه من احتجاجاتهم، ثمّ أجاب عنها واحدة واحدة من حيث المعارضة ومن حيث الحلّ.

فخرجت رسالة جامعة شاملة تبيّن المسألة بوضوح، وتهدي القارئ إلى سواء السبيل.

وأمّا نسبة هذه الرسالة إلى العلّامة، فهي نسبة قطعيّة، كما نسبها العلّامة لنفسه في كتابه الخلاصة: 48، ونسبها للعلّامة أيضاً أكثر من ترجمه، كالسيد الأمين في الأعيان 5: 405، والشيخ الطهراني في الذريعة 2: 31- 32.

وذكر هذه الرسالة بعض الأعلام باسم: استقصاء البحث والنظر في القضاء والقدر، وذكرها آخر باسم:

استقصاء البحث والنظر في مسائل القضاء والقدر، وقد

ص:10

تسمّى رسالة إبطال الجبر.

كتب بعض علماء الهند كتاباً في ردّ هذه الرسالة.

فردّه القاضي الشهيد بكتابٍ سمّاه: النور الأنور والنور الأزهر في تنوير رسالة القضاء والقدر.

العلّامة الحلّي في سطور:

ومؤلّف هذه الرسالة، هو العلّامة على الإطلاق، الذي لم يكد يجهل اسمه مَن له أقلّ ممارسة للعلوم وحبّ العلماء.

سجّلت الكتب اسمه وذكره وعلمه وورعه وتقواه في صحائف من نور، ولستُ بصدد ترجمته، فذلك يستطلب أن تخرج الرسالة عن الاختصار والإيجاز، ولكن أكتفي ببعض المقتطفات عن حياته وبذكر بعض أقوال علماء أهل السنّة في حقّه، وأُحيل القارئ العزيز إلى ما كتبه العلماء عن حياته، وإلى ما كتَبْتُهُ مفصّلًا في مقدّمة بعض كتب العلّامة عن حياته العلمية والعملية والجهادية، وإلى الموسوعة التي أنا الآن بصدد تنظيمها عن حياته، والتي ستخرج في عدّة مجلّدات إن شاء اللَّه.

ص:11

فهو: الحسن بن يوسف بن علي بن مطهّر، أبو منصور، الحلّي.

ولد في شهر رمضان عام 648 ه.

نشأ بين أبوين صالحين، وشارك في تربيته مشاركة فعّالة خاله المعظّم المحقّق الحلّي.

قرأ على والده سديد الدين يوسف بن علي بن المطهّر، وعلى خاله نجم الدين جعفر بن الحسن المعروف بالمحقّق الحلّي، وعلى الشيخ نصير الدين محمّد بن الحسن الطوسي، وعلى الشيخ نجم الدين عليّ بن عمر الكاتب القزويني، وعلى الشيخ شمس الدين محمّد بن محمّد بن أحمد الكيشي، وغيرهم كثير.

قرأ عليه وروى عنه ولده فخر المحقّقين محمّد، وابنا أُخته السيد عميد الدين عبد المطّلب والسيد ضياء الدين عبد اللَّه الحسيني الأعرجي، والشيخ قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي شارح الشمسية، وغيرهم كثير.

ألّف في الفقه والأُصول والكلام والحكمة والحديث والرجال والتفسير والنحو والأدعية و ... ما جاوز المائة

ص:12

كتاب.

تشيّع على يده السلطان محمّد خدابنده بعد مقدّمات ومساعي اشترك فيها علماء الشيعة.

كانت له مع علماء سائر الفرق الإسلامية مناظرات حرّة علنيّة وبروح موضوعية.

كانت أخلاقه الحسنة وسجاياه الكريمة تضرب بها الأمثال، حتى أنّ موقفه مع ألدّ خصومه ابن تيمية كان مرناً مع كمال الأخلاق، فنقل السخاوي كما في هامش نسخة (أ) من الدرر الكامنة 2: 72 عن شيخه: أنّه بلغه أنّ ابن المطهّر لمّا حجّ اجتمع هو وابن تيمية وتذاكرا، فأُعجب ابن تيمية بكلامه، فقال له: مَن تكون يا هذا؟ فقال: الذي تسمّيه ابن المنجّس!!.

توفّي رضوان اللَّه عليه في محرّم سنة 726 ه، ودفن في النجف الأشرف بجوار قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

قال الصفدي في الوافي بالوفيات 13: 85: الإمام العلّامة، ذو الفنون، ...، عالم الشيعة، وفقيههم، صاحب

ص:13

التصانيف التي اشتهرت في حياته، تقدّم في دولة خربنده! تقدّماً زائداً، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيّدة، وكان يصنّف وهو راكب، شرح مختصر ابن الحاجب، وهو مشهور في حياته ... وكان ابن المطهّر ريّض الأخلاق، مشتهر الذكر، تخرج به أقوام كثيرة، وحجّ أواخر عمره، وخمل وانزوى إلى الحلّة ... وكان إماماً في الكلام والمعقولات ....

وقال التغري بردي في النجوم الزاهرة 9: 267:

شارح مختصر ابن الحاجب ... كان عالماً بالمعقولات، وكان رضيّ الخُلق حليماً ....

وقال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان 2: 317:

عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم، وكان آية في الذكاء ....

وقال كحّالة في معجم المؤلفين 3: 303: عالم مشارك في الفقه، والأُصول، والكلام، والتفسير، والنحو، ومعرفة الرجال، والمنطق، وعلم الطبيعة والحكمة الإلهية.

وقال الزركلي في الأعلام 2: 227: يعرف بالعلّامة، من أئمّة الشيعة، وأحد كبار العلماء.

تحقيق الرسالة:

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على ثلاث نسخ:

(1) النسخة المحفوظة في مكتبة المجلس، في طهران، رقم 6342، ضمن مجموعة، كتبها السيد حيدر بن عليّ بن حيدر الآملي، تلميذ فخر المحقّقين، وقرأها على أُستاذه فخر المحقّقين ابن العلّامة، فكان إنهاء القراءة في الثاني عشر من شهر رمضان سنة 759 ه.

(2) النسخة المحفوظة في المكتبة العامة لآية اللَّه المرعشي، في قم، رقم 2796، ضمن مجموعة.

(3) النسخة المطبوعة في النجف، تحقيق علي الخاقاني.

فتمّ تحقيق هذه الرسالة بالاعتماد على هذه النسخ، سائلًا المولى الجليل أن ينفع بها المسلمين، وتكون سبباً لتوحيد كلمتهم ... آمين.

فارس تبريزيان

ص:15

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة مكتبة المجلس

ويلاحظ عليها إنهاء القراءة بخطّ محمّد ابن العلّامة الحلّي

ص:17

[مقدّمة المؤلّف:

] الحمد للَّه الحكيم الغفّار، القديم القهّار، العظيم الستّار، الّذي خلق الإنسان ومنحه بالاقتدار، وأنعم عليه بالتكليف المستند إلى الإرادة والاختيار، ووعده على فعل الطاعة عُقبى الدار، وتوعّده على المعصية بدخول النار، جزاءً على أفعاله بمقتضى العدل من غير إكراهٍ ولا إجبارٍ.

وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّدٍ النبيّ المختار، المبعوث من ولد معد بن نزار (1) 1، وعلى عترته الأماجد الأطهار،


1- من أحفاد إسماعيل، من سلسلة النسب النبوي.

ص:18

المعصومين من الخطأ والزلل حالَتَيْ الإيراد والإصدار، صلاةً تتعاقب عليهم تعاقب الأعصار.

أمّا بعد، فإنّه لمّا كان السلطان الأعظم، الحاكم في رقاب الأُمم، سلطان سلاطين العرب والعجم، شاهنشاه المعظّم، غياث الملّة والحقّ والدين، أُولجايتو خدابنده محمّد (1) 1، مالك وجه الأرض، ثبّت اللَّه ملكه إلى يوم النشر والعرض، وأيّده بالألطاف الربّانية، وأمدّه بالعنايات الإلهيّة، وقرن دولته بالخلود إلى اليوم الموعود.

ولا زالت الرقاب خاضعة لعظمته، والقلوب خاشعة لهيبته، والدنيا معمورة بدوام دولته، والأحكام نافذة على وفق إرادته، والآمال متوجّهة نحو كعبته، والنصر محفوفاً


1- حكم خدابنده بلاد إيران وتوابعها من سنة 703 ه وإلى وفاته سنة 716 ه، كان على مذهب أبي حنيفة في بادئ أمره، ثمّ انتقل إلى المذهب الشافعي، وبعد مناظرات عديدة جرت بين علماء السنة والشيعة وبحضور السلطان، اعتنق السلطان وأكثر أُمرائه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وكان هذا السلطان يحبّ العلماء ومجالستهم والاستماع إليهم، حتى كتب الكثير من العلماء بعض المؤلّفات بطلبٍ منه، ومنهم العلّامة الحلّي، كتب هذه الرسالة باسم السلطان خدابنده، لمّا سأله عن الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختياراً في أفعاله وأنّه غير مجبر عليها.

ص:19

بألويته، بمحمّدٍ وعترته.

قد منحه اللَّه بالقوّة القدسيّة، وخصّه بالكمالات النفسانيّة، والقريحة الوقّادة، والفكرة الصحيحة النقّادة، وفاق في ذلك على جميع الأُمم، وزاد علماً وفضلًا على مَن تأخّر وتقدّم، وألهمه اللَّه تعالى العدل في رعيّته، والإحسان إلى العلماء من أهل مملكته، وإفاضة الخير والإنعام على جميع الأنام، وبرز حكمه النافذ في الأقطار، لا زال ممتثلًا في الأعصار.

لمّا سألني بنظر الأدلّة الدالة على أنّ للعبد اختياراً في أفعاله، وأنّه غير مجبَر عليها.

قابلتُ ذلك الأمر المُطاع بالإمتثال والإتّباع، وسارعتُ في إنشاء هذه الرسالة الموسومة ب: استقصاء النظر في البحث عن القضاء والقدر، المشتملة على حجج الفريقين وأدلّة الخصمين، وأوضحتُ الحقّ منها بالبرهان الواضح والدليل اللّائح.

قاصداً في ذلك تحقيق الحقّ، وارتكاب نهج الصدق، واستعمال الانصاف، واجتناب البغي والاعتساف، وطلب

ص:20

الحقّ أين كان، والوصول إليه بقدر الإمكان، واللَّه الموفّق والمعين.

وقبل الخوض في الأدلّة نقرّر محلّ النزاع، فنقول:

ذهب جهم بن صفوان (1) 1: إلى أنّه لا فعل للعبد ألبتة، وأنّ الفاعل لجميع الأشياء هو اللَّه تعالى لا غير، ولا قدرة للعبد.

وذهب الأشاعرة (2) 2 والنجارية (3) 3: إلى أنّ اللَّه تعالى هو الموجد للأفعال بأجمعها، لكن العبد مكتسب لأفعاله، وأثبتوا للعبد قدرة غير مؤثّرة في الفعل، بل الفعل صادر


1- جهم بن صفوان، أبو محرز، الراسبي، مولاهم، السمرقندي، الكاتب المتكلّم، رأس الجهميّة، كان صاحب ذكاء، أُسّ الضلالة، له آراء منكرة، قتل سنة 128 ه، قيل: إنّ أسلم بن أحوز قتله، لانكاره أنّ اللَّه كلّم موسى. سير أعلام النبلاء 6: 26- 27.
2- أصحاب أبي الحسن عليّ بن اسماعيل الأشعري، تلميذ أبي علي الجبائي، وللأشعرية مذهب يخالف الجبرية والمعتزلة، وذهبوا إلى أنّ اللَّه خالق أفعال العباد خيرها وشرّها، لكن للإنسان استطاعة على الفعل واختياراً بقدرة حادثة غير مؤثّرة في الفعل، ولهم آراء منكرة وشاذّة.
3- فرقة من المعتزلة، أصحاب الحسن بن محمّد النجار البصري، المتوفى حدود سنة 230 ه، ذهبوا إلى أنّ اللَّه هو خالق أفعال العباد خيرها وشرّها، والعبد مكتسب لها، وأنّ اللَّه يرزق الحلال والحرام، ولهم آراء منكرة وشاذّة.

ص:21

من اللَّه تعالى

وهذا في الحقيقة هو مذهب جهم بن صفوان، لكن لمّا رأى أبو الحسن الأشعري (1) 1 أنّ الشناعة تلزمه من إسقاط فائدة التكليف، وعدم الفرق بين حركتنا يمنةً ويسرةً وصعودنا إلى السماء، اعتذر بإثبات القدرة، ولكن لمّا لم يجعل لها أثراً ساوى قول جهم بن صفوان.

أمّا الإماميّة (2) 2 والمعتزلة (3) 3: فإنّهم قسّموا الأفعال:


1- عليّ بن اسماعيل بن أبي بشر اسحاق بن سالم الأشعري اليماني البصري، كان معتزلياً ثمّ انقلب، لمنافرة حدثت بينه وبين أبي علي الجبائي، ثمّ أخذ يردّ المعتزلة، ولد سنة 260 ه، وقيل: 270 ه، ومات في بغداد سنة 324 ه. سير أعلام النبلاء 15: 85.
2- هم القائلون بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى بعث نبيّه محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم وجعله خاتم الأنبياء وجعل شريعته متمّمة للشرائع السابقة وحاوية لجميع متطلّبات المجتمع صغيرها وكبيرها، وشريعة كهذه لا يمكن لها أن تهمل نظام الحكم في الإسلام بعد وفاة النبي عليه السلام، ولّما كانت الشورى والبيعة ساقطة، لعدم وجود النصّ عليها، ولأنّها لو سلّمت لم تتمّ لأحدٍ، لعدم توفّر شروطها اللّازمة لأحدٍ، ولو سلّمت أنّها تمّت لأحدٍ لم تتمّ لجميع الخلفاء، لأنّ خلافة عمر لم تتمّ بالشورى، وإنّما كانت بنصّ أبي بكر عليه، لهذه الأُمور وغيرها التزم الإمامية بالقول بأنّ نظام الحكم في الإسلام بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالنصّ، بنصّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم على شخصٍ بعينه، يقوم من بعده بإدارة شؤون الأُمّة، وهذا الشخص هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، نصّ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع في غدير خم بعدما جمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين وخطب بهم وبيّن لهم تفاصيل الشريعة، وقال في آخر خطبته: «ألست أولى منكم بأنفسكم؟» قالوا: بلى يا رسول اللَّه، فقال صلى الله عليه و آله و سلم وقد أخذ بيد علي عليه السلام: «مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه»، وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة بين المسلمين، وأحاديث أُخرى أشار فيها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قبل حديث الغدير وبعده، كحديث المنزلة وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي»، إلى غير ذلك من أحاديث متواترة ثبتت عن النبي في حق عليّ أمير المؤمنين مذكورة في مصادر المسلمين تدلّ على خلافته بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل.
3- المعتزلة غير الإمامية، ويخطئ مَن يقول بأنّ المعتزلة هم الإمامية، وإن كان لهم مع الإمامية بعض الاتّحاد في المعتقد، إلّاأنّ بينهما فوارق واختلافات جوهرية. وسبب تسميتهم بالمعتزلة، لاعتزالهم حرب الجمل وصفّين، وقيل: لاعتزال واصل بن عطاء وجماعته عن مجلس الحسن البصري، وقيل غير ذلك، ويقال للمعتزلة أهل العدل والتوحيد، وأصل مذهبهم القول بالأُصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص:22

إلى ما يتعلّق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا، كحركتنا الاختيارية الصادرة عنّا، كالحركة يمنةً ويسرةً.

وإلى ما لا يتعلّق بقصودنا ودواعينا، كالآثار الّتي يفعلها اللَّه تعالى فينا من الألوان وحركة النموّ والتعذية وحركة النبض وغير ذلك، وهو مذهب الحكماء.

ص:23

والحقّ أنّا فاعلون

ويدلّ عليه العقل والنقل:

أمّا العقل: فلوجوه:

الأوّل: أنّا نعلم بالضرورة الفرق بين حركاتنا الإختيارية والإضطرارية وحركة الجماد، ونعلم بالضرورة قدرتنا على الحركة الأُولى كحركتنا يمنةً ويسرةً، وعجزنا عن الثانية، كحركتنا إلى السماء وحركة الواقع من شاهق وانتفاء قدرة الجماد.

ومَن أسند الأفعال إلى اللَّه تعالى ينفي الفرق بينهما، ويحكم بنفي ما قضت الضرورة بثبوته.

قال أبو هذيل العلاف (1) 1- ونعم ما قال-: حِمارُ بِشر أعقل من بِشر، لأنّ حمارَ بشر لو أتيتَ به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنّه يطفر، ولو أتيت به إلى جدول كبير


1- محمّد بن الهذيل بن عبد اللَّه بن العلاف بن مكحول العبدي البصري، مولى عبد القيس، من كبار المعتزلة وشيوخهم، إليه تنتمي الفرقة الهذيلية من المعتزلة، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل تلميذ واصل بن عطاء، ولد سنة 131 ه، وطال عمره وتجاوز التسعين، فقيل: إنّه مات سنة 227 ه، وقيل: سنة 235 ه. سير أعلام النبلاء 10: 542.

ص:24

وضربتَه فإنّه لا يطفر ويروغ عنه، لأنّه فرّق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه، وبِشر لا يفرّق بين المقدور له وغير المقدور.

الثاني: أنّه لو كانت الأفعال كلّها منسوبة إلى اللَّه تعالى لم يبقَ عندنا فرقٌ بين مَن أحسن إلينا غاية الإحسان وبين مَن أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره، وكان يقبح منّا شكر الأوّل وذمّ الثاني، لأنّ الفعلين صادران عن اللَّه تعالى لا عن الفاعلين.

ولمّا علمنا بطلان ذلك، وأنّه يحسن منّا مدح الأوّل وذمّ الثاني، علمنا بأنّ العلم باسناد الأفعال إلينا قطعيّ لا يقبل الشكّ.

الثالث: أنّه لو كانت الأفعال صادرة عن اللَّه، قبح منه أن يأمرنا وينهانا ويكلّفنا، كما أنّه يقبح من أحدنا أمر الزمن بالطيران إلى السماء، لأنّا عاجزون عن امتثال الأفعال، لاستحالة صدورها عنّا، كما أنّ الزمن عاجز عن ذلك، فكما أنّه يقبح منّا أمر الواقع من شاهق بالحركة والسكون، كذا يقبح أمر المكلّف بالطاعة واجتناب

ص:25

المعصية، لعجزه عنهما ووقوعهما لغيره.

لكن اللَّه قد أمر، ونهى وأنذر، وحذّر، ووعد، وتوعّد.

وكيف يحسن منه تعالى أن يقول:الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (1) 1

،وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (2) 2

، وهو الّذي فعل الزنا عندهم والسرقة؟! تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

الرابع: أنّ أفعالنا نعلم بالضرورة أنّها تقع عند قصودنا ودواعينا واختيارنا، وتنتفي عند كراهتنا وصوارفنا، فإذا أردنا الحركة يمنةً فعلناها، ولم يقع منّا سكون ولا حركة يسرةً، ولولا استنادها إلينا لجاز أن يقع وإن كرهنا وأن لا تقع وإن أردناها.

الخامس: أنّه يلزم منه أن يكون اللَّه تعالى في غاية الظلم للعباد والجور! تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، لأنّه يخلق فينا المعاصي وأنواع الكفر والشرك ويعذّبنا عليها.

ولا فرق بين خلقه الكفر في الكافر وخلق لونه


1- النور 24: 2.
2- المائدة 15: 38.

ص:26

وطوله، فكما يلزم الظلم لو عذّبه على لونه وطوله، فكذا يلزم الظلم لو عذّبه على الكفر الّذي خلقه فيه.

فقد نزّه اللَّه تعالى نفسه، فقال:وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (1) 1

،وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (2) 2

، فأيّ ظلم أعظم من تعذيب الغير على فعل يصدر من الظالم لا حيلة للمظلوم فيه ولا يُمكن من تركه؟!

ومن أغرب الأشياء وأعجبها: أنّهم ينزّهون أنفسهم عن المعاصي والكفر وأنواع الفساد، وينزّهون إبليس عن ذلك أيضاً، ووصفوا اللَّه تعالى بذلك!!، وقد كذّبهم اللَّه تعالى في كتابه العزيز؛ فقال:وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ (3) 3

، وقال:

(4) وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ (5) 4.

والأشاعرة يقولون: إنّه يريد منهم الكفر، وأيّ عاقل يرضى لنفسه مذهباً يلزم منه تكذيب اللَّه تعالى


1- فصلت 41: 46.
2- غافر 40: 31.
3- الأعراف 7: 28.
4-
5- الزمر 39: 7.

ص:27

السادس: أنّه يلزم منه أن يكون الكافر مطيعاً للَّه تعالى بكفره، لأنّه قد فعل ما هو مراد اللَّه تعالى وهو الكفر، ولم يفعل ما يكرهه اللَّه، وهو الإيمان، لأنّ الإيمان عندهم غير مراد اللَّه تعالى من الكافر، بل هو ممّا يكرهه اللَّه تعالى من الكافر.

وأيّ عاقلٍ يرضى لنفسه اعتقاداً: بأنّ اعتقاد أنّ الكفر طاعة وأنّ الإيمان معصية؟ نعوذ باللَّه تعالى من ذلك.

السابع: أنّه يلزم منه نسبة السفه إلى اللَّه تعالى وأنّه يفعل ضدّ الحكمة، لأنّ العقلاء إنّما يأمرون الغير بما يريدون إيقاعه منه وينهون عمّا يكرهون إيقاعه منه، وأنّ مَن أراد من غيره فعلًا ونهاه عنه، ومَن كره من غيره فعلًا وأمره به، نسبه العقلاء إلى الحمق والسفه.

والأشاعرة يقولون: إنّ اللَّه تعالى كره الإيمان من الكافر وأمره به، وأراد الكفر منه ونهاه عنه.

وأيّ عاقلٍ يرضى لنفسه نسبة السفه إلى اللَّه وهو الحكيم في أفعاله؟! كما قال اللَّه تعالى مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (1) 1

، ووصف نفسه بأنّه حكيم، وقولهم


1- الملك 67: 7.

ص:28

يضادّ ذلك.

فإن اعتذروا: بأنّ الأمر قد يتحقّق بدون الإرادة، كما في السيّد إذا ضرب عبده وطلب السلطان الانتقام منه، فاعتذر بأنّه لا يطيعني، فيقول له السلطان: مره حتّى أعرف عدم طاعته، فإنّ السيّد إذا أمره لم يرد منه الفعل.

قلنا: هذا خطأ من وجوه:

أوّلها: أنّه مثال جزئي لا نظير له ولا مثال سواه، فكيف يصحّ منّا حمل أوامر اللَّه تعالى ونواهيه وأوامر العقلاء ونواهيهم على هذا المثال الجزئي النادر، مع أنّ جميع الأوامر والنواهي لا تنفكّ عن الإرادة والكراهة.

وثانيها: أنّا نمنع أمر السيّد هاهنا، بل يُوجِد صيغة الأمر، ولا يأمره أمراً حقيقياً.

وثالثها: أنّ السيّد كما لا يريد الفعل كذا لا يطلبه، فإنّ السيّد يطلب إقامة عذره وتمهيده عند السلطان، وليس ذلك بطلب الفعل منه، كما أنّه ليس بإرادة، فإذا امتنعت الإرادة هنا يمتنع الطلب، مع اتّفاقهم على إثبات طلب الفعل منه.

ص:29

ورابعها: أنّ السيّد يكره على الأمر بما لا يريد، والبحث إنّما هو في غير المكره، ولا يلزم من الإنفكاك عند الإكراه الإنفكاك مع الاختيار.

الثامن: يلزم جواز أن يعذّب اللَّه تعالى سيّد الرسل العذاب الدائم، ويخلّد إبليس وفرعون الجنان ويورثهما إيّاها، حيث أنّه لا مدخل للطاعة والمعصية في استحقاق الثواب والعقاب عندهم، فتبطل جميع التكاليف، ويلتجئ كلّ عاقل إلى الراحة من التكاليف وفعل أنواع الملاذ والمعاصي والملاهي المحرّمة وترك التكاليف الشاقة، إذ لا فرق بين ارتكاب المشاق وامتثال الأوامر بالطاعات وبين ارتكاب أنواع الفسوق، بل يجب أن يحكم بسفه الزاهد العابد المنفق أمواله في أصناف الخير من بناء المساجد والربط والمدارس، لأنّه يجعل لنفسه ارتكاب المشقّة وما يحتاج إليه من الأموال لغرضٍ لا يحصل بفعل ذلك، بل قد يحصل له به العذاب، ويترك الراحة والملاذ والملاهي، مع أنّه قد يحصل به النعيم المؤبّد.

وأيّ عاقلٍ يرضى لنفسه مثل هذا المذهب المؤدّي إلى

ص:30

خراب العالم واختلاف نظام النوع الإنساني واضطراب الشريعة المحمّدية؟!.

التاسع: أنّه يلزم منه الكفر وعدم الجزم بصدق الرسول صلى الله عليه و آله، وانتفاء الوثوق بشي ء من الشرائع والأديان، لأنّ الكفر والاظلال وجميع المعاصي وأنواع الفسوق ودعوى الكذّابين في النبوّة صادرة عنه تعالى وواقعة بارادته، فجاز أن يكون محمّد صلى الله عليه و آله وغيره من الأنبياء المتقدّمين كموسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما قد ادّعوا النبوّة وهم كذّابون، وأنّه تعالى خلق المعجز عقيب دعواهم لاضلال الخلق، لأنّ العصاة والفسّاق والكفّار في العالم أكثر من المطيعين، لقوله تعالى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (1) 1

،وَقَلِيلٌ مَا هُمْ (2) 2

، فتكون عادته تعالى جارية بالإضلال.

فكيف يعرف صدق الأنبياء حينئذٍ؟ وأيّ طريق يوصلنا إلى ذلك مع علمنا بأنّه تعالى يضلّ العالم ويفعل بهم ضدّ الحق ولا يريد هدايتهم ولا إرشادهم؟! فنعوذ باللَّه


1- سبأ 34: 13.
2- سورة ص 38: 24.

ص:31

تعالى من المصير إلى مثل هذا المذهب.

العاشر: الأشاعرة شاكّون في حصول النجاة لهم ولأنبيائهم، إذ لا يمكنهم الجزم بذلك، فإنّ الثواب والعقاب غير مستحقّين عندهم بفعل الطاعات والمعاصي، بل جاز أن يعذّب اللَّه المؤمن، بل النبي، ويثيب الكافر على ما تقدّم، والشكّ كفر، نعوذ باللَّه من ذلك.

الحادي عشر: أنّه يلزم منه أن يصف اللَّه تعالى نفسه بوصف غير مستحقّ له، وذلك كفر.

بيان ذلك: أنّه تعالى وصف نفسه بالرحمة والغفران والعفو، وإنّما يتحقّق ذلك لو كان اللَّه تعالى مستحقاً للعقاب في جنب الفسّاق، بحيث يتحقّق باسقاطه العقاب العفو والغفران والرحمة، وإلّا فأين يتحقّق إذا لم يكن مستحقاً لعقاب العصاة، وإنّما يستحقّ العقاب لو كان العصيان مستنداً إلى العبد، أما إذا كان مستنداً إلى اللَّه تعالى واقعاً بإرادته لم يكن له على العاصي حقّ.

الثاني عشر: إذا كانت الأفعال واقعة بارادته وقدرته تعالى كيف يتحقّق الظلم من العباد؟ وكيف

ص:32

يستحقّ أحد اللعنة من اللَّه تعالى ومن العباد؟ وكيف يحسن منه تعالى أن يقول:أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (1) 1

؟ وأيّ ذنب للظالم في ظلمه إذا كان من فعله تعالى وكيف يحسن منه لعنته وأمر العباد بها؟

الثالث عشر: أنّه يلزم من مذهب الأشاعرة عدم التديّن بشي ء من الشرائع والأديان، لا بدين الإسلام ولا بغيره من شرائع الأنبياء السالفين، لأنّ مبنى الأديان على صدق الأنبياء عليهم السلام، وإنّما يتمّ صدق النبي بمقدّمتين لا يذهب إليهما الأشاعرة:

إحداهما: أنّ اللَّه تعالى فعل المعجز على يد مدّعي الرسالة لأجل تصديقه ولغرض صحّة دعواه.

الثانية: أنّ كلّ من صدّقه اللَّه تعالى فهو صادق.

أمّا المقدّمة الأُولى فاستعمل الناس فيها قياس الغائب على الشاهد، وقالوا: لو أنّ شخصاً ادّعى أنّه رسول السلطان إلى رعيّته، ثمّ قال: أيّها السلطان إن كنتُ رسولك حقّاً فانزع خاتمك من إصبعك، فنزع السلطان خاتمه من


1- هود 11: 18.

ص:33

إصبعه وكرّر ذلك مراراً، فإنّ الحاضرين إن علموا أنّ السلطان نزع خاتمه لغرض تصديقه حكموا بأنّه قد أرسله إلى الرعيّة، وإن علموا أنّه نزعه للراحة أو للعبث أو لأمر آخر لا لغرض تصديقه، فإنّهم لا يحكمون بأنّه قد صدّقه.

وكذلك النبيّ صلى الله عليه و آله إذا ظهر وادّعى الرسالة وخلق اللَّه تعالى المعجز على يده، إن علم الناس أنّه تعالى لم يفعل ذلك لغرض تصديقه لم يحكموا بصدقه، وإلّا حكموا بصدقه.

والأشاعرة منعوا هذه المقدّمة وقالوا: إنّ اللَّه تعالى لا يجوز أن يفعل شيئاً من الأفعال لغرض ألبتة، فكيف يتحقّق حينئذٍ العلم بصدق مدّعي الرسالة؟

وأمّا المقدّمة الثانية: فإنّ المعتزلة التجأوا فيها إلى حكم العقل من قبح تصديق الكذّاب، فإذا صدّق اللَّه تعالى مدّعي الرسالة علمنا أنّه صادق، لاستحالة القبيح عليه.

وهذه المقدّمة لا تتمشّى على مذهب الأشاعرة، لأنّ القبائح كلّها مستندة إلى اللَّه تعالى عندهم، فجاز أن يصدّق الكذّاب، فلا يتحقّق العلم بصدق النبيّ الصادق.

الرابع عشر: الأشاعرة لم يرضوا بقضاء اللَّه تعالى

ص:34

وقدره، وحرّموا ذلك على العباد، لأنّ اللَّه تعالى قضى بالكفر على الكافر وبالمعصية على العاصي، وحرّموا الرضى بالكفر والعصيان.

أمّا الامامية، فإنّهم رضوا بقضاء اللَّه تعالى وقدره، لأنّه تعالى إنّما يقضي بالحقّ ويقدّره، وحاشا اللَّه تعالى أن يقضي بالباطل.

الخامس عشر: مذهب الأشاعرة يلزم منه انتفاء الوثوق بوعد اللَّه تعالى ووعيده، وتنتفي فائدة بعثة الأنبياء، لأنّ أنواع المعاصي عندهم صادرة عنه تعالى ومن جملتها الكذب، فجاز أن يكون خبره بالوعد والوعيد كذباً، فلا تبقى في بعثة الأنبياء فائدة، وذلك فساد عظيم، تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

السادس عشر: لو كانت الأفعال مخلوقة للَّه تعالى لزم تكليف ما لا يطاق، وهو قبيح عقلًا، والسمع قد منع منه، فقال اللَّه تعالى لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (1) 1.

السابع عشر: أنّ اللَّه تعالى خلق العالم- عند الإمامية


1- البقرة 2: 286.

ص:35

والمعتزلة- لحكمة ظاهرة، وهو إيصال الجود (1) 1 إلى خلقه، فإنّه قد ثبت أنّ الوجود خير والعدم شر، ولاظهار رحمته ولطف عنايته وطلب معرفته، كما قال في كتابه العزيز:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (2) 2.

ثمّ أرسل الرسل لإرشاد العباد إلى كيفية عبادته على الوجوه الشرعية، لعجز العقول عن تفاصيل العبادات، فيثيب المطيع بهم، ويعاقب المخالف المعاند، وإنّما يتمّ ذلك كلّه لو كان اللَّه تعالى يفعل لغرض وكان للعبد أثر في أفعاله، وعلى قول المجبرة (3) 3 لا يتمّ ذلك، لأنّه تعالى عندهم لا يفعل لغرض ولا أثر للعبد ألبتة.

الثامن عشر: أنّه يلزم منه إفحام الأنبياء، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله إذا قال للكافر: آمن بي، فإذا قال له الكافر: قل


1- كذا في النسخ الثلاث المعتمدة، وفي بعض النسخ: «الوجود».
2- الذاريات 51: 56.
3- فرقة قالت: لا قدرة للآدمي، بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل، ويقال لها: الجبرية، والمجوزة. والجبرية اثنتان: متوسطة تثبت للعبد كسباً في الفعل، وخالصة لا تثبت له كسباً.

ص:36

للذي بعثك يخلق فيّ الايمان بدل الكفر حتى آمن، لأنّي لا قدرة لي على مقاهرة القديم، انقطع النبي صلى الله عليه و آله!.

ص:37

وأمّا المنقول، فوجوه:

الأوّل: الآيات الدالّة على مدح المؤمن على ايمانه، وذمّ الكافر على كفره، والوعد بالثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، كقوله تعالى

(1) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (2) 1.إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) 2.إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (4) 3.وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (5) 4.


1-
2- النجم 53: 37.
3- الاسراء 17: 3.
4- هود 11: 75.
5- القلم 68: 4.

ص:38

(1) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا (2) 1.تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (3) 2.أُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (4) 3.

الثاني: الآيات الدالّة على المجازاة على الأفعال، قال اللَّه تعالى

(5) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (6) 4.الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) 5.وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (8) 6.لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (9) 7.هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (10) 8.هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (11) 9.


1-
2- مريم 19: 37، سورة ص 38: 27، الذاريات 51: 60.
3- المسد 111: 1.
4- النحل 16: 32.
5-
6- غافر 40: 17.
7- الجاثية 45: 28.
8- فاطر 35: 18.
9- طه 20: 15.
10- الرحمن 55: 60.
11- النمل 27: 90.

ص:39

(1) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا (2) 1.لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ (3) 2.وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً (4) 3.وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيَّئَةٌ مِثْلُهَا (5) 4.أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (6) 5.أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (7) 6.لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (8) 7.لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (9) 8.

ولولا أن يكون العبد فاعلًا لَما استحقّ الجزاء عليه من


1-
2- الأنعام 6: 160.
3- فاطر 35: 30.
4- طه 20: 124.
5- الشورى 42: 40.
6- البقرة 2: 16.
7- البقرة 2: 86.
8- البقرة 2: 286.
9- الصافات 37: 61.

ص:40

ثواب أو عقاب، ولم تتحقّق المجازاة والمقابلة بإزاء الأفعال.

الثالث: الآيات الدالة على أنّ أفعال العباد مستندة إليهم وصادرة عنهم، كقوله تعالى

(1) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ (2) 1.إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ (3) 2.ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (4) 3.بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً (5) 4.فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ (6) 5.مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (7) 6.كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (8) 7.مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ


1-
2- البقرة 2: 79.
3- الأنعام 6: 116، يونس 10: 66، النجم 53: 23.
4- الأنفال 8: 53.
5- يوسف 12: 18 و 83.
6- المائدة 5: 30.
7- النساء 4: 123.
8- الطور 52: 21.

ص:41

فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ (1) 1.الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً (2) 2.يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (3) 3.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ (4) 4.إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَايُؤْمِنُونَ (5) 5.

الرابع: أنّ اللَّه تعالى نزّه نفسه عن أن تكون أفعاله مثل أفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف، فقال اللَّه:

(6) مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (7) 6.الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (8) 7.


1- ابراهيم 14: 22.
2- البقرة 2: 274.
3- فاطر 35: 29.
4- البقرة 2: 282.
5- البقرة 2: 6.
6-
7- الملك 67: 3.
8- طه 20: 50.

ص:42

والكفر ليس بحسن.

الخامس: أنّ اللَّه تعالى نزّه نفسه عن الظلم، فقال تعالى

(1) إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (2) 1.وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (3) 2.وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (4) 3.

(5) لَاظُلْمَ الْيَوْمَ (6) 4.وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (7) 5.وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (8) 6.وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (9) 7.


1-
2- النساء 4: 40.
3- فصلت 41: 46.
4- النحل 16: 118.
5-
6- غافر 40: 17.
7- النساء 4: 77.
8- النساء 4: 124.
9- غافر 40: 31.

ص:43

السادس: أنّ اللَّه تعالى ذمّ عباده على الكفر والمعاصي الصادرة عنهم ووبّخهم على ذلك وعنّفهم عليه، فقال اللَّه تعالى

(1) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ (2) 1.

ويقبح منه تعالى أن يخلق الكفر في الكافر ويوبّخه عليه، مع عجز العبد عن مقاهرته تعالى وإيقاع خلاف إرادته.

وكيف يحسن منه أن يقول:وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى (3) 2

وهو المانع لهم؟! ويقول لإبليس:مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (4) 3

، وقد كان لإبليس أن يلتجئ إلى قوله: أنت المانع لي والقاهر على ترك السجود، ولا أتمكّن من مقاهرتك، ولم يعتذر بالافتخار على آدم عليه السلام.

ومثل هذا الإنكار كمثل شخص حبس عبده في بيت وجعله بحيث لا يتمكّن من الخروج عنه، ثمّ يقول: ما منعك من الخروج عنه إلى قضاء أشغالي، ويعاقبه على


1-
2- البقرة 2: 28.
3- الاسراء 17: 94.
4- الأعراف 7: 12.

ص:44

ذلك بأنواع العقوبات، ولا شكّ عند العقلاء أنّ هذا قبيحٌ.

وقال تعالى

(1) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا (2) 1.

وقال موسى:مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ (3) 2.

وقال:فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (4) 3.فَمَا لَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ (5) 4.لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (6) 5.لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (7) 6.

إلى غير ذلك من الآيات.

السابع: الآيات الدالّة على العفو، كقوله تعالى

(8) عَفَى اللَّهُ عَنْكَ (9) 7.


1-
2- النساء 4: 39.
3- طه 20: 92- 93.
4- المدثر 74: 49.
5- الانشقاق 84: 20.
6- التحريم 66: 1.
7- التوبة 9: 43.
8-
9- التوبة 9: 43.

ص:45

(1) وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. (2) إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (3) 2.

وإنّما يتحقّق العفو والغفران لو صدر الذنب عن العبد.

الثامن: الآيات الدالّة على الإنكار، كقوله تعالى

(4) لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (5) 3.لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (6) 4.فَأَنّى تُصْرَفُونَ (7) 5.فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (8) 6.لِمَ تَكْفُرُونَ (9) 7.

وكيف يحسن منه تعالى التعنيف على ذلك وهو الفاعل


1-
2- آل عمران 3: 31، الأحزاب 33: 71.
3- النساء 4: 48.
4-
5- آل عمران 3: 71.
6- آل عمران 3: 99.
7- يونس 10: 32، الزمر 39: 6.
8- الأنعام 6: 95، يونس 10: 34، فاطر 35: 3، غافر 40: 62.
9- آل عمران 3: 70 و 98.

ص:46

له؟! وكيف يحول بين العبد والإيمان ثمّ يقول:وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا (1) 1

؟! وذهب بهم عن الرشد ثمّ قال:فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (2) 2

! وكيف يضلّهم عن الدين حتى يعرضوا ثمّ يقول:فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (3) 3

؟!

التاسع: الآيات الدالّة على أنّه تعالى خيّر عباده في أفعالهم وجعلها معلّقة بمشيئتهم، فقال تعالى

(4) فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (5) 4.اعْمَلُوا مَا شِئْتُم (6) 5.لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (7) 6.فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (8) 7.فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (9) 8.فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (10) 9.


1- النساء 4: 39.
2- التكوير 81: 26.
3- المدثر 74: 49.
4-
5- الكهف 18: 29.
6- فصلت 41: 40.
7- المدثر 74: 37.
8- المدثر 74: 55، عبس 80: 12.
9- المزمل 73: 19، الإنسان 72: 29.
10- النبأ 78: 39.

ص:47

العاشر: الآيات الدالّة على إنكار مَن نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى اللَّه، فقال:

(1) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ ءٍ (2) 1.وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ (3) 2.

الحادي عشر: الآيات الدالّة على أنّه تعالى أمر العباد بالمسارعة إلى فعل الطاعات، فقال تعالى

(4) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (5) 3.فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (6) 4.وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (7) 5.

الثاني عشر: الآيات الدالّة على أمر العباد بالأفعال:

(8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا


1-
2- الأنعام 6: 148.
3- الزخرف 43: 20.
4-
5- آل عمران 3: 133.
6- البقرة 2: 148.
7- الواقعة 56: 10- 11.
8-

ص:48

الرَّسُولَ (1) 1.وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ (2) 2.أَجَيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ (3) 3.اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ (4) 4.ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ (5) 5.فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ (6) 6.وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (7) 7.وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ (8) 8.

الثالث عشر: الآيات الدالّة على حثّ اللَّه تعالى


1- النساء 4: 59، محمّد 47: 33.
2- البقرة 2: 43 و 83 و 110، النساء 4: 77، يونس 10: 87، النور 24: 56، الروم 30: 31، المزمل 73: 20.
3- الأحقاف 46: 31.
4- الأنفال 8: 24.
5- الحج 22: 77.
6- النساء 4: 170.
7- الزمر 39: 55.
8- الزمر 39: 54.

ص:49

عباده على الاستعانة به، فقال:

(1) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينَ (2) 1.اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ (3) 2.فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (4) 3.

وكيف يجوز أن يخلق فينا الظلم والكفر وأنواع المعاصي ويأمرنا بالاستعانة به؟! والشيطان مبرّء عندهم من فعل شي ء ألبتة ويأمرنا بالاستعاذة منه، وقد كان الواجب- على قولهم- الإستعانة بالشيطان والاستعاذة من اللَّه!! تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

الرابع عشر: الآيات الدالّة على فعل اللَّه تعالى اللطف للعباد، قال:

(5) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. (6) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (7) 5.


1-
2- الفاتحة 1: 5.
3- الأعراف 7: 128.
4- النحل 16: 98.
5-
6- التوبة 9: 126.
7- الزخرف 43: 33.

ص:50

(1) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ (2) 1.فَبَما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (3) 2.إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (4) 3.

وإذا كانت الأفعال من اللَّه، فأيّ فائدة ونفع في اللطف المقرّب إليه، مع أنّها من فعله تعالى .

الخامس عشر: الآيات الدالّة على اعتراف الكفّار والعصاة باستناد أفعالهم إليهم، كقوله تعالى

(5) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إلى قوله:أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (6) 4.

(7) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (8) 5

إلى آخر الآية.


1-
2- الشورى 42: 27.
3- آل عمران 3: 159.
4- العنكبوت 29: 45.
5-
6- سبأ 34: 31- 32.
7-
8- المدثر 74: 42- 44.

ص:51

وقوله تعالى

(1) كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَد جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ (2) 1.أُولئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إلى قوله تعالى فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (3) 2.فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (4) 3.

وغير ذلك من الآيات.

السادس عشر: الآيات الدالّة على تحسّر الكفّار في الآخرة والندم على الكفر والمعصية وطلب الرجوع إلى الدنيا ليفعلوا الخير، مع أنّهم في المرّة الثانية مقهورون على فعل الكفر والمعاصي، فأيّ فائدة لهم في ذلك، وقد كان


1-
2- الملك 67: 8- 9.
3- الأعراف 7: 37- 39.
4- النساء 4: 160.

ص:52

طريق الاعتذار أنّ هذه الأفعال ليست صادرة عنّا باختيارنا، بل هي من فعل اللَّه تعالى وقضائه، ولا اختيار لنا فيها، قال اللَّه تعالى

(1) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً (2) 1.رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (3) 2.قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ (4) 3.أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (5) 4.

السابع عشر: الآيات الدالّة على نكس رؤوس الكفّار واستحيائهم من اللَّه تعالى كقوله تعالى

(6) وَلَوْ تَرَى إِذِ الُمجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (7) 5.


1-
2- فاطر 35: 37.
3- المؤمنون 23: 107.
4- المؤمنون 23: 99- 100.
5- الزمر 39: 58.
6-
7- السجدة 32: 12.

ص:53

وأيّ موجب لنكس رؤوسهم والحياء اللّاحق بهم، مع أنّهم غير قادرين على ترك المعصية، وأنّها من فعل اللَّه تعالى !

الثامن عشر: القرآن إنّما أنزل حجّة للَّه على عباده، وكذا إرسال الرسل، قال اللَّه تعالى

(1) لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (2) 1.

وأيّ حجّة على اللَّه أعظم من حجّة الكفّار، فإنّ لهم أن يقولوا: كيف تأمرنا بالايمان وقد خلقت فينا ضدّه، وأنّه لا قدرة لنا عليه ولا على أن نقهر مرادك؟ وكيف تنهانا عن الكفر وقد خلقته فينا؟ وأيّ عذر للَّه تعالى عن ذلك؟ وما يكون جوابه تعالى عند الأشاعرة عن هذا الإلزام؟!

وما أحسن قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمّا سأله الشامي: أكان مسيرك إلى الشام بقضاء اللَّه وقدره؟

فقال عليه السلام:ويحك، لعلّك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً


1-
2- النساء 4: 165.

ص:54

حاتماً، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد، إنّ اللَّه سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لغواً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا،ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفُرُوا مِنَ النَّارِ (1) 1 (2) 2.

فانظر إلى توبيخه عليه السلام الشامي وتنذيره بقوله:

(3) ويحك، مع أنّها كلمة توبيخ، حيث ظنّ أنّ القضاء لازم له.

ثمّ إلى قوله:لو كان قضاءاً لازماً لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد، لأنّه يكون ظلماً من اللَّه تعالى واللَّه تعالى منزّه عنه، وكما أنّه يسقط الثواب والعقاب والوعد والوعيد على خلق الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها إلّااللَّه تعالى فكذا يجب أن يسقط ذلك على خلق الطاعة والمعصية الصادرين عن اللَّه تعالى، ولكن


1- سورة ص 38: 27.
2- الكافي للكليني 1: 155 ح 1 من باب الجبر والقدر.
3-

ص:55

لما ثبت الوعد والوعيد والثواب والعقاب، دلّ ذلك على بطلان القول بالقضاء اللّازم.

ثمّ انظر إلى قوله عليه السلام:أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، فإنّه تعالى لم يقهر عباده على فعل الطاعة، ولا على اجتناب المعصية، إذ لو كان ذلك لبطل التكليف وكان الفعل مستنداً إلى اللَّه تعالى بل أمر عباده أن يوقعوا الفعل على اختيارهم بإرادتهم، فإن فعلوه أثابهم، وإن تركوه عاقبهم، وكذا حذّرهم في النهي أنّهم إن فعلوا المنهيّ عنه عذّبهم.

ثمّ إلى قوله:وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وهو يبطل قواعد المجبرة الذين قالوا: إنّ اللَّه تعالى كلّف عباده بالمحال وبما لا قدرة لهم عليه، وأيّ يسر في ذلك؟ وأيّ عسر أعظم منه؟

ثمّ إلى قوله عليه السلام:ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، فإنّه يبطل قواعدهم أيضاً، فإنّه لا يلزم من المعصية الصادرة عن العباد- مع أنّه تعالى لم يردها منهم- كونه مغلوباً، لأنّه تعالى إنّما يكون مغلوباً إذا لم يتمكّن من فعل

ص:56

ضدّ إرادتهم، لكنّه تعالى متمكّن قادر عليه، وإنّما لم يفعله لأنّه أراد إيقاع الفعل من العبد على جهة الاختيار.

ثمّ انظر إلى قوله عليه السلام:ولم يرسل الأنبياء لغواً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، كما قال تعالى فإنّه مبطل لقواعدهم أيضاً، حيث يقولون: إنّه تعالى لا يفعل لغرض ولا لمصلحة ولا لحكمة، ولم يخلق الرِجل للمشي ولا اليد للبطش ولا اللسان للنطق، إلى غير ذلك من الأعضاء، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما لحكمة ولا لغاية ولا لغرض ألبتة، بل خلق جميع ذلك لا لفائدة راجعة إليه ولا إلى خلقه، بل لا لفائدة أصلًا! وهذا بعينه هو العبث والباطل واللعب! تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وسأل أبو حنيفة (1) 1 الكاظم عليه السلام فقال: المعصية ممّن؟

فقال الكاظم عليه السلام:المعصية إمّا من العبد، أو من ربّه،


1- النعمان بن ثابت بن زوطي، مولى بني تيم اللَّه الكوفي، ينتمي إليه المذهب الحنفي، درس عند الإمام الصادق عليه السلام، كان خزّازاً يبيع الخزّ، ولد سنة 80 ه، روى عن عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له، مات سنة 150 ه. سير أعلام النبلاء 6: 390.

ص:57

أو منهما:

فإن كانت من اللَّه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يعذّب عبده الضعيف ويأخذه بما لم يفعله.

وإن كانت المعصية منهما، فهو شريكه، والقويّ أولى بإنصاف عبده الضعيف.

وإن كانت المعصية من العبد وحده، فعليه وقع الأمر، وإليه توجّه الذمّ والمدح، وهو أحقّ بالثواب والعقاب، ووجبت له الجنّة والنار (1) 1.

فقال أبو حنيفة:ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2) 2.

احتجّت الأشاعرة بوجوه:

الأوّل: أنّ العبد لو كان فاعلًا، فإن لم يتمكّن من الترك لزم الجبر، وإن تمكّن، فإن لم يفتقر الترجيح إلى مرجّح لزم ترجّح أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجّح، وهو محال، وإن افتقر، فذلك المرجّح إن وجب معه


1- أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: 318.
2- آل عمران 3: 34.

ص:58

الفعل لزم الجبر، وإلّا عاد البحث إليه فيتسلسل.

الثاني: أنّ اللَّه تعالى إن علم وقوع الفعل وجب وقوعه، وإلّا لزم انقلاب علم اللَّه تعالى جهلًا، وهو محال، وإن علم عدمه استحال وقوعه، وعلى كلا التقديرين يلزم الجبر.

الثالث: العبد لو كان فاعلًا لكان شريكاً مع اللَّه تعالى وهو محال.

الرابع: أنّ الإيمان لو أراده اللَّه تعالى من الكافر لزم عجز اللَّه تعالى لأنّ الكافر قد وقع مراده وهو الكفر، واللَّه تعالى لم يقع مراده وهو الإيمان.

والجواب عن الأوّل: من حيث المعارضة، ومن حيث الحلّ:

أمّا المعارضة، فإنّا نورد دليلهم في حقّ اللَّه تعالى ونقول:

اللَّه تعالى إذا فعل فعلًا، فإن لم يتمكّن من تركه لزم الجبر، ولا يكون اللَّه تعالى مختاراً في أفعاله، بل يكون موجباً، وهو كفر، لأنّه مذهب الفلاسفة.

ص:59

وإن تمكّن من الترك، كانت قدرته على الفعل والترك واحدة، فإذا رجّح الفعل، فإن لم يفتقر إلى مرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجّح، وهو محال عندهم، وإن افتقر إلى مرجّح، فذلك المرجّح إن وجب معه الفعل لزم الجبر، فيكون اللَّه تعالى موجباً، وهو محال، وإن لم يجب عاد البحث فيه.

فما هو جوابهم عن اللَّه تعالى هو جوابنا عن العبد.

وأمّا الحلّ، فإنّا نقول:

أوّلًا: أنّه يجب معه الفعل.

قوله: يلزم الجبر.

قلنا: لا نسلّم، فإنّ الفعل هنا يجب بقدرة العبد وإرادته، والجبر إنّما يلزم لو وجب لا بقدرته وإرادته.

وأمّا ثانياً: فإنّا نقول: إنّه لا يجب معه الفعل.

قوله: يلزم ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجّح.

قلنا: نمنع تساويهما، بل يكون الفعل أرجح وإن لم ينته إلى حدّ الوجوب، وترجيح الراجح ليس بمحال.

ص:60

وأمّا ثالثاً: فإنّا نمنع استحالة ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر عند القادر لا لمرجّح، فإنّ العلم القطعيّ حاصل بأنّ الجائع إذا قدّم إليه رغيفان متساويان فإنّه يتناول أحدهما من غير أن ينتظر وجود مرجّح، وأنّ العطشان إذا وجد ماءين متساويين فإنّه يختار أحدهما ولا يموت عطشاً إلى أن يحصل له المرجّح، والهارب من السبع اذا اعترضه وله طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر وجود المرجّح.

والأصل في ذلك: أنّ القادر يفعل بواسطة القصد والإختيار ودعوى الداعي إلى الفعل، وهذا الداعي هو علم الفاعل أو ظنّه بأنّ ما يفعله ضارّ أو نافع فيه، وهو يقصد الخير، فإذا تعدّد طريقه وتساوى الطريقان في حصوله، فإنّه يسلك أحدهما من غير مرجّح، لأنّ مطلوبه يحصل بكلّ واحد من الطريقين، والمراد هو القدر المشترك، والخصوصيّات لا مدخل لها في قصده، بل أيّها حصل حصل مقصوده.

والجواب عن الثاني: من حيث المعارضة، ومن حيث

ص:61

الحلّ.

أمّا المعارضة: فإنّ دليلهم وارد في حقّ اللَّه تعالى لأنّه تعالى لو علم وقوع الفعل عنه، فإن جاز أن لا يقع لزم تجويز الجهل عليه تعالى وإن امتنع لزم الجبر وانتفت قدرة اللَّه تعالى فيكون اللَّه تعالى موجباً لا مختاراً، وذلك عين الكفر.

وأمّا الحلّ: فإنّا نقول: العلم تابع للمعلوم وحكاية عنه وغير مؤثّر فيه، والحكاية قد تتقدّم المحكي، كما تقول: غداً تطلع الشمس من المشرق، فإنّه حكاية عن طلوع الشمس متقدّمة عليه، وقد تتأخّر عن المحكي، ولا يلزم منه وجوب المعلوم، وذلك لأنّ العلم والمعلوم أمران متطابقان، ولا علم إلّاوهو بإزائه معلوم.

والأصل في التطابق هو المعلوم دون العلم، فإذا تعلّق العلم بوجود زيد في الدار، فلولا أن يكون لوجود زيد في الدار تحقّق- أمّا قبل العلم أو بعده أو معه- لم يتعلّق العلم به، فهو تابع غير مؤثّر في المعلوم إيجاباً أو امتناعاً، نعم اذا فرضت تعلّق العلم به فقد فرضت وقوع المعلوم، لأنّ

ص:62

فرض وقوع أحد المتطابقين يستدعي فرض وقوع الآخر، فإذا فرضت وقوع المعلوم حصل له وجوب اللّاحق، وكذا إذا فرضت ما يطابقه، وكما أنّ هذا الوجوب مع فرض وقوع المعلوم لا يؤثّر في الامكان الذاتي للمعلوم، كذا فرض العلم الذي هو مطابقه.

ولا فرق بين علم اللَّه تعالى في ذلك وعلم الواحد منّا، فإنّا إذا علمنا وجود زيد في الدار، لو لم يكن موجوداً في الدار لزم أن لا يكون ما فرضناه علماً، وانقلاب الحقائق محال، فيجب أن يكون زيد موجوداً، حتى يمكن تحقّق علمنا به، وكما أنّ وجود زيد في الدار يكون مستنداً إلى إرادته وقدرته لا إلى علمنا، كذلك علم اللَّه تعالى غير مؤثّر في المعلوم.

وعن الثالث: أنّه خطأ، فإنّ الشركة إنّما تتحقّق لو قلنا:

إنّ العبد قادر لذاته على جميع الأشياء غير مغلوب في شي ء ممّا يريده، أمّا إذا قلنا: إنّ اللَّه تعالى قد منحه قدرة وإرادة باعتبارها يؤثّر في بعض الأفعال، وأنّ اللَّه قادر على تعجيزه وقهره وسلب قدرته وإرادته، فإنّه لا يلزم أن

ص:63

يكون شريكاً للَّه تعالى

وعن الرابع: أنّ العجز إنّما يلزم لو لم يقدر اللَّه تعالى على قهر الكافر على الايمان، أمّا على تقدير أن يقدر اللَّه تعالى على قهره عليه وإجباره، فإنّه لا يكون عجزاً، لكن اللَّه تعالى لم يرد منه إيقاع الايمان كُرهاً، بل على سبيل الإختيار، لئلّا يقبح التكليف منه تعالى فأيّ عجز يتحقّق حينئذٍ إذا لم يؤمن العبد باختياره؟!

فإنّ السلطان إذا أمر وزيره أن يفعل فعلًا يكون الوزير فيه مختاراً لا مجبراً، بل فوّض السلطان إليه الاختيار، فإنّه إذا لم يتخيّر فعله لم ينسب السلطان إلى عجز، نعم لو أراد السلطان منه الفعل كيف كان- سواء كان باختيار الوزير أو بغير اختياره- فإذا لم يفعل الوزير الفعل ثبت العجز، والفرق بين الصورتين ثابت.

وليكن هذا آخر ما نورده في هذا الكتاب

واللَّه الموفّق للصواب

وللَّه المرجع والمآب

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.